الرئيس عون- تحديات جسام وإرث سياسي في لبنان الطائفي

المؤلف: د. عمار علي حسن09.24.2025
الرئيس عون- تحديات جسام وإرث سياسي في لبنان الطائفي

يواجه الرئيس اللبناني الجديد، جوزيف عون، حزمة من التحديات المُلحة تتصدرها خمس قضايا جوهرية. في مقدمتها، تبرز التداعيات الخطيرة للحرب الإسرائيلية على حزب الله، والتي لا تزال تهدد بالاندلاع مجدداً، خاصة في ظل إصرار إسرائيل على عدم الانسحاب من جنوب لبنان. يلي ذلك، ضرورة التصدي بحزم لأي تحركات أو تصرفات من شأنها أن تُعمق الانقسامات الطائفية، وتضع البلاد على شفا حرب أهلية جديدة. ثالثاً، يتعين على الرئيس اتخاذ إجراءات ملموسة ومؤثرة ينتظرها الشعب اللبناني بفارغ الصبر، بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. رابعاً، يجب العمل على حصر السلاح بيد الدولة، وفرض سيطرتها الكاملة على الأمن. وأخيراً، هناك جملة من المسائل الدستورية العالقة التي تتطلب حلاً عاجلاً.

إلى جانب هذه المهام العاجلة، تبرز مهمة دائمة ومحورية تواجه كل رئيس لبناني، وتزداد أهميتها في هذه المرحلة بالذات، ألا وهي "إدارة النخبة السياسية اللبنانية" المعروفة بنزعتها الطائفية الراسخة، والتي يعترف بها الدستور نفسه. فالمادة 95 من الدستور تنص على أنه "بصورة مؤقتة والتماسًا للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بالمصلحة العامة".

في هذا السياق، يجب أن يتحلى الرئيس اللبناني بخبرة سياسية واسعة، وفطنة ذهنية عالية، تمكنه من التعامل بفاعلية مع نخبة سياسية أشبه بمسرح شكسبيري، يجمع بين أطراف متناحرة تتآمر في الخفاء، وتتصارع في العلن، حول المكاسب والمصالح والمناصب. هؤلاء النخبويون يجسدون بكل ما للكلمة من معنى تركيبة المجتمع اللبناني الفسيفسائية المعقدة، فهم يتنقلون بين التقارب والتباعد، والتجاذب والتنافر، في دوامة من الغليان المستمر الذي لا يعرف التهدئة ولا الراحة.

سيتعين على الرئيس أن يتجاوز خلفيته العسكرية، وأن يستوعب بعمق "ذهنية الصفقات" التي تهيمن على الحياة السياسية في لبنان، والتي لا يختلف حولها المتعمق في العقيدة، والمنفلت العابث الذي لا يؤمن بشيء. فاللبنانيون أنفسهم لا ينكرون وجود هذه الذهنية بقوة في حياتهم اليومية. فبعض الصحف توجه بوصلتها نحو من يدفع أكثر، والبعض الآخر يغيرون انتماءاتهم الطائفية مع تغير الفصول. ولبنان هو البلد الذي قد تجد فيه العائلة الواحدة مسلمين ومسيحيين تحت سقف واحد، فالزواج بين الطوائف متاح على نطاق واسع.

وكما انقسمت العائلات، تم تقسيم المناصب السياسية وتوزيعها بموجب عرف طائفي. فرئيس الجمهورية مسيحي، ورئيس الوزراء مسلم سني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي. وفي الوقت نفسه، يتم توزيع مقاعد البرلمان، وكراسي الوزارة، ووظائف الإدارة العليا على الطوائف المختلفة حسب وزنها الاجتماعي. والحياة السياسية بشكل عام يحكمها الزعماء، وهم قادة الطوائف ورؤساء الميليشيات، ورؤساء الأحزاب، وكبار الملاك.

لبنان الذي انفتح على العالم منذ القدم، استقى من مختلف الثقافات حتى ارتوى، وتلونت خريطته الفكرية بألوان الطيف. فهناك الحداثي، وهناك التقليدي، وهناك الراديكالي في مواجهة المحافظ. ويوجد من يفكر بمنطق لاتيني، ومن يسلك نهجًا أنجلوسكسونيًا. ويعيش فريق حياة دينية متشددة، وفريق آخر لا يرى بديلاً عن العلمانية. وفي خضم هذا الانفتاح، لا تزال العشائرية متأصلة في العقلية اللبنانية.

هذه التركيبة اللبنانية الفريدة في العالم العربي، انعكست بشكل مباشر على النخبة اللبنانية، التي ظلت حبيسة داخل الطوائف، وملونة بألوانها. هذه النخبة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، تبقى ابنة السياق الاجتماعي الذي أنتجها، وتمر آليات تجنيدها عبر بوابة الطائفة.

إن مهمة الرئيس في إدارة الخلافات بين النخب لا تقتصر على النخبة الرسمية التي تتربع على مقاعد السلطة في البرلمان أو الحكومة، بل تشمل أيضاً "النخبة المضادة"، التي تضم أولئك الذين يخسرون في المنافسة الانتخابية على مقاعد مجلس النواب، والذين يتم تجاهلهم عند تشكيل الحكومات. هذه النخبة تشكل قوة معارضة للنخبة الحاكمة، حيث تمتلك نفس القدرات من التأييد والدعم المحلي، والخبرة في العمل السياسي العام، والثروة والنفوذ.

وعلى الرغم من أن الحكومات المتعاقبة كانت تحرص دائماً على احتواء أصحاب النفوذ واسترضاء الطوائف، إلا أن الحياة السياسية اللبنانية ظلت مليئة بالمتذمرين والمتمردين. لذا، ليس من المستغرب أو الجديد أن تجد بعد كل تشكيل وزاري مجموعة ترفض وتعترض بشدة، ليس فقط من بين أولئك الذين تم استبعادهم، بل أيضاً من بين الوزراء أنفسهم الذين لا يرضون عن حقائبهم، وكانوا يطمحون في مناصب أعلى وأكبر.

إن نشاط النخبة السياسية في لبنان، سواء الحاكمة أو المضادة، جعل الحياة السياسية هناك حيوية ومليئة بالحركة، ومتعطشة للتغيير. ففي غضون 72 عامًا تقريبًا، تم تشكيل 65 وزارة، وتغير عدد أعضاء مجلس النواب من 55 إلى 66 إلى 77، ثم انخفض إلى 44، وارتفع إلى 66، وقفز إلى 99، واستمر على هذا النحو منذ عام 1960، حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، حيث قفز إلى 108 أعضاء، ثم أخيراً 128 عضواً.

فالطوائف تتزايد وتبرز قوة بعضها، ولذلك لا بد من تنفيس هذه القوة من خلال توزيع الأعداد والمناصب والأدوار، وإلا حدث الانفجار. بل إن هذا الانفجار كان حتمياً، فاندلعت الحرب الأهلية، وشوهت صورة لبنان الاجتماعية، ولطخت جدرانه بدماء أبنائه.

بعد اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية، كانت هناك ثلاث قضايا رئيسية تشغل النخبة السياسية اللبنانية في أدائها، وتأخذها في الاعتبار في تنافسها، وهي: تحرير الأرض المحتلة، وإعادة إعمار البلاد المدمرة، والحد من الصراع الطائفي البغيض.

هذه القضايا تعود بتمامها بعد مرور 35 عامًا. فالأرض التي انسحبت منها إسرائيل في مايو/ أيار 2000، تحت ضربات المقاومة، عادت لتحتل جزءًا منها. ومناطق عديدة في لبنان تم تدميرها وتحتاج إلى إعادة إعمار. والطائفية لا تزال ترفع رأسها، وقد تكون محل جدل ونقاش أكثر من أي وقت مضى.

هنا سيكون على الرئيس الجديد أن يتعامل بكياسة ومرونة مع قضية المحاصصة السياسية والمذهبية والطائفية، ومع التجليات الواقعية لشعار "الجيش والشعب والمقاومة"، وأن يعرف جيدًا كيف يمكنه التحرك بخفة، ولكن بتأثير قوي، في ظل صلاحياته المحدودة لصالح رئيس الوزراء، وحاجته الماسة إلى تعاون الحكومة ومجلس النواب والقوى الشعبية والمدنية معه لتنفيذ القرارات.

لكن الرمزية التي يمثلها "رئيس لبنان" بعد عامين من شغور المنصب، وفي ظل الظروف الإقليمية والمحلية المتوترة، تجعل التوقعات عليه من الناحية العملية، خاصة عند الشعب اللبناني، أكبر بكثير مما تفرضه الصلاحيات، أو ما يحدده نفوذه السياسي في مواجهة تركيبة تحكمها عمليًا الطوائف والأحزاب السياسية، وتنعكس على المناصب الوزارية والبرلمانية.

هذه الرمزية يمكن أن تساعد عون، إذا كانت لديه الإرادة والعزم، على عدم الاستسلام للتركيبة السياسية التقليدية في اختيار رئيس الحكومة والوزراء وقادة المؤسسات والإدارات الأساسية، وأن يضع نصب عينيه من هو قادر على مد يد العون للبنان الآن، وهو يمر بلحظة حرجة من تاريخه المعاصر، وعليه أن يتجاوزها بسلام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة